تعرف مدينة لاهور، عاصمة ولاية البنجاب وثاني أكثر المدن ازدحاماً بالسكان في باكستان، باسم "حدائق المغول" أو "مدينة الحدائق" بفضل ما تتمتع به من تراثٍ غني يعود إلى عهد الإمبراطورية المغولية في الهند (بين عامي 1523 و1752). وتتركز في هذه المدينة، التي كانت محصنة في يومٍ من الأيام، المعالم الأثرية والأبنية التي تعكس التنوع الثقافي في العمارة. وعلى الرغم مما واجهته من ماضٍ ديناميكي مضطرب على مدى عدّة قرونٍ من الزمن، فقد حافظت المدينة على الكثير من طابعها الحضري التاريخي. وفي أعقاب الانتهاء من مشروع حصن شيغار في عام 2005، طلبت حكومة باكستان من صندوق الآغا خان للثقافة تقديم مساهماتٍ فنية لمشروع تنمية منطقة شاهي كازركاه (المحكمة الملكية) في مدينة لاهور المسوّرة، علماً بأن هذا المشروع تم تمويله من قبل البنك الدولي. وتشتهر مدينة لاهور المسوّرة بالعديد من المعالم التاريخية، بما في ذلك حصن لاهور – وهو أحد المواقع المسجلة على لائحة مواقع التراث العالمي – بالإضافة إلى مسجدي بادشاهي ووزير خان. وتزخر المدينة المسوّرة بألفي مبنى تظهر مجموعةً من الخصائص العمرانية التي تميّز المشهد الثقافي في لاهور منذ قرون. وتشكّل غالبية هذه المباني والمحلّات (الأحياء المحلية) بالطريقة التي تتمركز فيها بصمةً تراثيةً فريدة من نوعها. وبدأ العمل الذي نفذه صندوق الآغا خان للثقافة ومؤسسة الآغا خان للخدمات الثقافية في باكستان على التوالي في إطار شراكةٍ تم توقيعها بين القطاعين العام والخاص في عام 2007 مع حكومة البنجاب. وتضمنت المرحلة الأولى من المشروع، والتي تم إنجازها في عام 2014، تصميم وتحسين خدمات البنية التحتية وتوثيق المعالم الأثرية الرئيسية التي تعود إلى حقبة المغول في الهند. وتم تيسير وجود بعدٍ اجتماعي وثقافي هام يستهدف التخفيف من حدّة الفقر وخلق الفرص الاقتصادية للسكان المحليين عبر المشاركة المجتمعية في المشاريع. ويتواصل العمل الفني لصندوق الآغا خان للثقافة حالياً على أساس مذكرة تفاهم تم توقيعها مع هيئة لاهور المسوّرة. ومن المرجح أن يستمر برنامج المساعدة الذي يقدمه الصندوق في المستقبل المنظور.
قدّم صندوق الآغا خان للثقافة ومؤسسة الآغا خان للخدمات الثقافية في باكستان المساعدة الفنية والمالية على حدٍّ سواء للمشروع التجريبي، وتم إدراج المشروع في إطار التنمية المتكاملة الذي يغطي كامل المدينة المسوّرة. ويتضمن هذا الإطار خطةً استراتيجيةً تم تطويرها في عام 2008 بالتزامن مع دعمها بمعلومات أساسية مادية واجتماعية – اقتصادية قام بتأسيسها مكتب الصندوق في لاهور، وبنظام المعلومات الجغرافية الجديد للمدينة المسوّرة.
وهناك عدّة أسبابٍ لموافقة الصندوق على التدخل في مدينة لاهور المسوّرة منها:
· الانخفاض الحاد الذي تم تسجيله في عدد السكان المقيمين في المدينة المسوّرة. وكان عدد السكان المحليين قد انخفض إلى ما يقل عن 150 ألف نسمة (مقارنةً مع 240 ألف نسمة قبل خمسة عقود) في الوقت الذي بدأت فيه مشاركة صندوق الآغا خان للثقافة في المشروع. وفي نفس الوقت، فقد تم أما هدم مبانٍ تحظى بأهميةٍ تاريخية كبيرة أو تحويلها إلى مستودعاتٍ من قبل القطاع التجاري. وشدّدت الخطة الاستراتيجية على أهمية الحفاظ على العدد الكبير من السكان ضمن المدينة المسوّرة عبر تحسين ظروف السكن وتوفير الخدمات الاجتماعية الأساسية، ليتم بالتالي وقف المزيد من التدهور ووضع الأساس لعملية الإحياء الاجتماعي – الاقتصادي.
· تواجد النية لدى صانعي القرار المحليين بتحويل المدينة المسوّرة إلى وجهة محتملة للزوار القادمين من خلفيات محلية ووطنية ودولية. وأتاحت هذه العقلية الإيجابية لصندوق الآغا خان للتنمية المساعدة على التحضير للتنمية الاقتصادية للمدينة المسوّرة، ليتم بالتالي تأكيد الزيادة في عدد الزوار وخلق فرص العمل للسكان المحليين.
وبرعاية صندوق الآغا خان للثقافة، تم تحضير خطة متوسطة المدى لتنمية البنية التحتية الخاصة بكامل المدينة المسوّرة، ليتم دمج تصميم خدمات المرافق المختلفة في برنامج مقسّم على مراحل ويمتد على مدى 15 عاماً من الزمن.
تم تنفيذ أعمال الترميم الخاصة بشارع غالي سورجان سينغ في عام 2010، وذلك في إطار برنامج بلدي مخصص لتحسين البنية التحتية تم توقيعه مع حكومة البنجاب، علماً بأن المشروع حظي بدعمٍ جزئي بفضل منحة قدمتها له السفارة الألمانية.
وقبل البدء بمشروع غالي سورجان سينغ، لم تخضع الشوارع المماثلة لما تم ذكره أعلاه تاريخياً لاعتبارات الصيانة الجمالية والعمرانية، كما أنها لم تكن متوافقة مع البيئة المحيطة بها عندما ينظر لها أخصائيو التخطيط المدني في المدينة، ويعود ذلك بصورةٍ جزئية إلى عدم وجود القوانين الناظمة لهذه الأمور. وسعت التصاميم المفاهيمية التي قام صندوق الآغا خان للتنمية بتحضيرها في بداية عام 2008 إلى دمج ما يتوفر من ضروراتٍ مادية لسكان المباني التي تصطف على جانبي الشارع بطريقةٍ جمالية تتطلع لإعادة تأهيل منظر المدينة وأفقها.
وجرت عملية تجديد البنية التحتية عبر استبدال أنابيب المياه والصرف الصحي بأنابيب البولي إيثيلين عالي الكثافة وأنابيب كلوريد البولي الفينيل غير الملدّن على التوالي، بالإضافة إلى دعم وإعادة تنظيم شبكة توزيع الطاقة الكهربائية باستخدام الكابلات الهوائية المحزّمة، بالتزامن مع الاعتماد على المشابك والمثبتات في فتراتٍ منتظمة لتمكين الكابل من متابعة المعالم العمرانية لواجهات المباني.
واستكمل المشروع إحدى المهام التي سعى إليها وتم تصميمها لإعادة القيمة لمنطقةٍ تراثية حضرية بصورةٍ عملية عبر مجموعةٍ من مبادرات الدعم الفني والاجتماعي، وتم تنفيذ ذلك بطريقةٍ متكاملة عبر توفير البنية التحتية الخدمية الأساسية لمعيارٍ قوي بنيّة تحسين منظر المدينة وإعادة تأهيل النسيج التاريخي. وقام المشروع بتأسيس نماذج تصميمية للبنية التحتية والعمارة التي تقوم هيئة مدينة لاهور المسوّرة بتكرارها على حدٍّ سواء على نطاقٍ أوسع في المناطق الأخرى من المدينة المسوّرة. وتجدر الإشارة إلى أن المشروع حصل على "إشادة شرفية" من جوائز اليونسكو للحفاظ على التراث الثقافي في منطقة الباسيفيك الآسيوية في عام 2014.
تم الانتهاء من عملية ترميم "شاهي حمّام" – وهو حمامٌ عام يتواجد في منطقة بوّابة دلهي وتم إنشاؤه في القرن السابع عشر أثناء حقبة المغول في الهند – في يونيو من عام 2015. وتطلبت عملية إعادة تأهيل المجمّع الذي تصل مساحته إلى ألف متر مربّع عامين من الزمن.
ويعتبر "شاهي حمّام"، الذي تم بناؤه في عام 1634 في عهد شاه جهان، من الحمامات التي بنيت وفقاً لعادات مؤسسات الاستحمام الفارسية والتركية. وعلى الرغم من إشارة البقايا الأثرية إلى تواجد وشعبية الحمامات الأصغر حجماً في حقبتي سيطرة المغول والسيخ على الهند، إلا أن "شاهي حمّام" يعتبر الحمّام العام الأثري الوحيد الذي بقي من تلك الحقبة في شبه القارة الهندية.
وجرى تخصيص الجدران الحاجزة الشمالية والغربية والجنوبية للحمام كواجهات مؤقتة للمحلات قبل القيام بأعمال الترميم. وتم تكييف بعض الأجزاء من هيكل المبنى لتقوم بهذه الوظيفة التجارية بشكلٍ أفضل، علماً بأن مصارف المياه المفتوحة أصلاً، والتي تم البناء فوقها أو سدّها، أدت إلى تسرّب المياه إلى أساسات المبنى، لتساهم بشكلٍ كبير في إزالة طبقة الكلس وفي خسارةٍ كبيرة للعديد من الرسوم الجصية الجدارية للمبنى. كما استولى القطاع العام على القسم الداخلي من الحمّام وقام باستخدامه بطرقٍ مختلفة بمرور الوقت، ليتم تحويله إلى مدرسةٍ للأولاد، ومدرسة مهنية للبنات، وكمستوصف وكمكتب للدوائر الحكومية. وفي هذه الأثناء، تم تأجير الحجرات الشمالية الغربية من الحمّام كمحلات، لتكتمل عملية طمس هوية الموقع الذي يعتبر من المعالم التراثية.
وتم تقديم تعويض نقدي للتجار المحليين المتعدّين على الجدران الخارجية من الحمّام مقابل إعادة توطين محلاتهم، بالتزامن مع بناء جدارٍ داعم يحول دون وقوع المزيد من الانتهاكات في المستقبل. وبعد ذلك، تم خفض مستوى ارتفاع الشارع المحيط بالمبنى ليعود إلى ارتفاعه التاريخي تحت ما يزيد عن مترين من الارتفاع الذي تواجد فيه حينها، وهو ما أتاح إظهار وعرض كامل واجهته التاريخية. وأثناء عملية التنقيب، تم اكتشاف نظام التدفئة التقليدي الخاص بالحمّام والأفران، فضلاً عن توفير فهم لطريقة توجيه المياه المسخّنة إلى حجرات الاستحمام المتعددة. وتم تنفيذ أعمال ترميم مدخل المبنى الأصلي والخصائص المعمارية للإنارة الداخلية والخارجية، بالتزامن مع إعادة تدوير 65 ألف قطعة قرميد تاريخية من مختلف أقسام الحمّام.
وتم افتتاح الحمّام للعموم كمتحف في يوليو من عام 2016، ليجذب بذلك الزوار المحليين والدوليين. وإلى جانب حصن لاهور، فقد بات الحمّام على نحوٍ متزايد نقطةً مركزيةً للسياحة في المدينة المسوّرة. وحصل الحمّام على جائزة الاستحقاق في إطار جوائز اليونسكو للحفاظ على التراث الثقافي في منطقة الباسيفيك الآسيوية.
تم بناء مجمّع مسجد وزير خان بين عامي 1634 و1635 م (1044 – 1045 هـ) على يد حكيم علي الدين، حاكم مقاطعة لاهور (1632 – 1639) أثناء حكم الإمبراطور المغولي شاه جهان للهند.
ويتواجد في المجمّع المسجد نفسه، والساحة (المساحة الحضرية التمهيدية)، وصفٌّ من الحجرات (المحلّات التجارية) التي تم دمجها في نظام المدخل المخصص للخطاطين ومجلدي الكتب، وذلك إلى جانب المحلات الإضافية الموجودة على الواجهتين الشرقية والشمالية والمبنية في صلب هذا المعلم الأثري. وتعتبر الزخارف العمرانية الوافرة التي تزيد من جمالية الأسطح الخارجية والداخلية من المجمّع سمةً استثنائيةً فريدة من نوعها تضع المسجد في مقدّمة المعالم الأثرية الرئيسية في العالم.
تم تنفيذ عملية التوثيق الشاملة للمسجد في عام 2009، ليقوم في عام 2012 فرقٌ فني من المعماريين والمهندسين المتخصصين في عمليات الترميم لدى مؤسسة الآغا خان للخدمات الثقافية بنشر التوثيق لتحديد مجموعة المشكلات والقضايا التي واجهت المسجد.
وتم الانتهاء من ترميم وإعادة تأهيل الواجهة الشمالية من مسجد وزير خان التي يصل طولها إلى 85 متراً في يونيو 2016، حيث تم القيام بذلك بفضلٍ مساعدة مالية قدمتها الحكومة النرويجية وصندوق الآغا خان للثقافة، وبتسهيلٍ من هيئة مدينة لاهور المسوّرة.... وتضمن المشروع العودة إلى مستوى الشارع الأصلي، والاستخدام المتكيف للحجرات المرمّمة كمحلاتٍ تجارية يجري فيها تنفيذ النشاطات التجارية تحت رقابة هيئة مدينة لاهور المسوّرة، وإنارة الواجهة وإعادة تأهيل الواجهة الشمالية بطريقةٍ تجعلها أنموذجاً لعمليات ترميم المسجد بأكمله عندما وضع هذا الأخير حيّز التنفيذ.
تمت عملية إعادة تأهيل ساحة وزير خان، وهي الفناء التاريخي لمسجد وزير خان وتصل مساحتها إلى 800 متر مربع، في الربع الأخير من عام 2015، وذلك بتمويل من صندوق السفراء الأمريكي للحفاظ على التراث الثقافي وصندوق الآغا خان للثقافة، وبتسهيلٍ من هيئة مدينة لاهور المسوّرة.
وسعى مشروع الترميم إلى استعادة الحيّز الحضري عبر خفض ارتفاع الساحة إلى مستواها الأصلي، وحفر وترميم الواجهة الشرقية وحجرات مسجد وزير خان، وترميم بازار الخطاطين وباحة المسجد، والتنقيب على بئر "دينا ناث" وترميمه وإعادة تأهيل المنطقة الحضرية المفتوحة بما يعود بالفائدة على المجتمع. وتعتمد عملية ترميم الواجهة الشرقية على الخبرات المكتسبة أثناء ترميم الواجهة الشمالية على مستوى الزخارف المعمارية، بالتزامن مع اللجوء إلى الاختبارات المختبرية العالمية للمواد عبر صندوق الآغا خان للثقافة، واللجوء إلى العمل المماثل الذي تم تنفيذه من قبل في أفغانستان.
وتمثل الهدف في استعادة الباحة لإعادة استخدام المنطقة العامة الحضرية في المدينة المسوّرة ذات الكثافة السكانية العالية، وذلك من خلال تحويلها إلى منطقةٍ جذابة تتيح تنفيذ مجموعة من النشاطات مثل عروض القوالي والملة والمناسبات الخاصة، وبشكلٍ خاص العروض المسائية التي تعبّر عن البيئة المحلية. وتم الانتهاء من العمل في يوليو من عام 2017؛ لتقوم هيئة مدينة لاهور المسوّرة بتنظيم الفعالية الرئيسية الأولى في يوم 14 أغسطس 2017 احتفالاً بمرور 70 عاماً على الاستقلال.
وفي عام 2017، صادقت حكومة البنجاب على دفع تكاليف بقيمة 5 مليون دولار أمريكي خلال السنوات الخمس من عملية ترميم مسجد وزير خان.
في سبتمبر 2015، بدأت مؤسسة الآغا خان للخدمات الثقافية في باكستان بعملية توثيق "سور الصورة" في حصن لاهور – وهو عبارة عن لوحة جدارية تزّين الحصن والسبب الرئيسي لإدراج الموقع على قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي في عام 1981.
بدأ صندوق الآغا خان للثقافة التزامه بالموقع في سبتمبر 2015 عبر القيام بتوثيق "صور السور" تبعها توثيق "حصن لاهور" بالكامل، عبر أموال مقدمة من السفارة الملكية النرويجية. انتقل المشروع منذ ذلك الحين ليشمل التخطيط لإعادة تأهيل الحصن وتحسين الظروف داخل منطقة عازلة على طول الحافة الجنوبية والشرقية. تهدف مبادرة حصن لاهور إلى تحفيز عملية التنمية الإجتماعية والإقتصادية في المدينة المسورة التاريخية، عبر تجديد نظام إدارة السياحة للحصن وإعادة تنشيط المساحات غير المستخدمة حالياً لتوليد الإيرادات.
وفي عام 2017، صادقت حكومة البنجاب على دفع تكاليف بقيمة 9 مليون دولار أمريكي خلال السنوات الخمس من عملية ترميم حصن لاهور ومعالمه الأثرية.
يجري حالياً تنفيذ الخطة الاستراتيجية للمدينة المسوّرة على مراحل تتضمن أقساماً مختلفة. وفي المناطق التي يركز فيها صندوق الآغا خان للثقافة جهوده من المدينة المسوّرة، يظهر التأثير المتوقع ما سيتم تركه من أثر فيما يتعلق بعددٍ المعالم الأثرية معادة التأهيل، فضلاً عن تحسين ظروف السكن للسكان المحليين، وتحسين وصول هؤلاء السكان إلى المرافق العامة، وتحسين وصول الزوار إلى المعالم التاريخية وتحسين السلامة في الشوارع.
وحظيت عملية إزالة منافذ البيع بالتجزئة المؤقتة التي طغت على مدى عقود على المعالم التاريخية الهامة على طول شريان المواصلات الرئيسي في المدينة المسورة، بالإضافة إلى إعادة تأهيل هذه المعالم، بتأثير بصري ونفسي كبير – مما أدى إلى زيادة عدد زوار المنطقة.
تم عقد عددٍ من الشراكات الرئيسية نتيجة تزايد وعي رجال الأعمال البارزين والقادة السياسيين والمتعلمين بما تتمتع به مدينة لاهور من أهمية تاريخية واجتماعية – اقتصادية، لا سيما تراثها المغولي. كما لعب تقدير هؤلاء لما يقوم صندوق الآغا خان للثقافة بتطبيقه من معايير عالية على مستوى جهود الترميم وإعادة التأهيل دوراً في عقد هذه الشراكات.