أنت هنا

أنت هنا

  • سمو الآغا خان يلقي كلمة خلال فعاليات حفل توزيع جائزة الآغا خان للعمارة لدورة عام 2019.
    AKDN / Akbar Hakim
فعاليات حفل توزيع جائزة الآغا خان للعمارة لدورة عام 2019

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم

سعادة مينتيمير شايمييف،

سعادة  إليونورا ميتروفانوفا،

أعضاء الحكومة المحترمين،

الضيوف المتميزون

إنه لمن دواعي سروري أن أرحب بكم جميعاً في هذا الحفل.

نجتمع اليوم مع مجموعة من الأشخاص الاستثنائيين، في مكانٍ استثنائي، ولأهداف استثنائية.

تُنظم دورة جائزة الآغا خان للعمارة كل ثلاث سنوات، ثم تُتوج كل دورةٍ بالاحتفال بالحاصلين على الجائزة.

نحتفل الليلة بنتائج الدورة الرابعة عشرة.

إنها لحظات استثنائية بالنسبة لي، وأنا أتذكر قرارنا إطلاق هذا البرنامج منذ أكثر من أربعة عقود.

قد تتساءلون ما الذي أدى إلى هذا القرار؟ ولماذا يتوجب على الإمامة الإسماعيلية الإلتزام بعمق في عالم مهنة هندسة العمارة؟

تكمن الإجابة البسيطة في اعتقادي بأن الهندسة المعمارية - أكثر من أي شكل فني آخر - لها تأثير عميق على نوعية الحياة البشرية. وكما يقال في كثيرٍ من الأحيان: إننا نقوم بتشكيل بيئتنا المبنية، ثم تقوم المباني بدورها بتشكيلنا.

هذه العلاقة الوثيقة بين الهندسة المعمارية وطبيعة التجربة الإنسانية لها صدى عميق على نحوٍ خاص في العالم النامي. أعتقد أننا جميعاً نتحمل مسؤولية تحسين نوعية الحياة كلما وحيثما أتيحت لنا الفرصة. إن التزامنا بالتأثير على جودة الهندسة المعمارية من الناحية الفكرية والمادية ينبثق مباشرةً من التزامنا بتحسين نوعية الحياة البشرية نفسها.

كما تعلمون، تعرّفنا خلال العقود الأربعة تلك على مجموعة واسعة من المساهمات المعمارية، تتضمن أكثر من تسعة آلاف مشروع قد رُشح لنيل الجائزة.

لكن قيمة هذا البرنامج تتجاوز مجرد التعرف على مشاريع محددة.

جائزة الآغا خان للعمارة ليست مجرد جائزة، بل هي منهج.

يتضمن هذا المنهج إجراء مجموعة واسعة من المحادثات في جميع أنحاء العالم، والتي تؤدي في نهاية المطاف إلى عملية الإختيار.

موضوع الدورة، الذي يبلغ ذروته اليوم يتمثل في أهمية "الهندسة المعمارية في خلق الحوار". ظهرت هذه الفكرة خلال مداولات اللجنة التوجيهية ولجنة التحكيم العليا، وهذه الفكرة ترتأي أن الهندسة المعمارية تشكل تبادلاً قوياً، ويمكن لهذا التبادل أن يشمل مجموعة متنوعة من وجهات النظر وحتى المتباينة منها.

يتطلب الحوار الحقيقي شيء أكثر من مجرد تبني منظور واحد وحسب، يتطلب منّا الاستماع باهتمام إلى وجهات النظر الأخرى. بل وأكثر من ذلك، فهو لا يتطلب فقط الاستماع إلى بعضنا البعض، ولكن أيضاً التعلم من بعضنا البعض.

ثمة العديد من الطرق التي يمكن من خلالها المزج بين وجهات نظر مختلفة. اسمحوا لي أن أصف بإيجاز أربعة منهم فقط:

قبل كل شيء، يجب علينا تعزيز حوار صحي بين المشاركين الفعليين في العملية المعمارية. لا أقصد فقط المهندسين المعماريين المهرة أنفسهم، ولكن أيضاً أولئك الذين يتعاونون معهم، مثل العملاء وقادة المجتمع والمسؤولين الحكوميين والمربين وعمال البناء والمصممين والحرفيين الذين يساعدون في تحقيق خططهم. أولت لجنة التحكيم العليا الخاصة بالدورة اهتماماً وثيقاً بهذا البعد، حيث نظرت إلى الصفات المتمثلة في القيادة والتعاون والانفتاح كصفات تساعد على خلق حوار مبدع.

أمّا الحوار الثاني، الذي يتطوّر إلى الأفضل في هندسة العمارة الإنسانية، هو الحوار المفتوح بين الماضي والمستقبل، وهذا يعني أكثر بكثير من مجرد عملية نسخ للماضي، أو مجرد إضافة بعض الأقواس أو المآذن أو الخطوط القديمة إلى مبنى جديد. ومن ناحية أخرى أيضاً، فإن هذا يعني أكثر من مجرد مقاربة عصرية للماضي تتجاهل تراثنا الغني. إن إدراكنا، الذي يعود لأكثر من 40 عام، أن الممارسة المعمارية في المجتمعات الإسلامية كانت مؤخراً تنسى تاريخها، الأمر الذي ساعدنا في تشكيل طبيعة هذه الجائزة.

إن الحوار الذي نسعى إليه يشكل مزيجاً من إلهام الماضي ومطالب المستقبل. والمطالب كثيرة: بيئية وإجتماعية وتكنولوجية وإقتصادية، ناهيكم عن تحديات الاستقطاب السياسي. في تلك النواحي كافة، يمكن أن يساعدنا النظر إلى الوراء في التطلع إلى الأمام والعكس صحيح.

يتمثل الحوار الثالث، الذي يستحوذ على الاهتمام المعماري، في الحوار بين الطبيعة من ناحية والإبداع الإنساني من ناحية أخرى. يعتبر كلاً من العالم الطبيعي وعالم القدرات البشرية من الهِبات الإلهية، لكن من المغري أحياناً تبني أحدهما دون التفكير كثيراً في الآخر.

يطلب القرآن الكريم من المسلمين ألا يكونوا مستفيدين سلبيين من موطننا الطبيعي، بل أن يكونوا مخلصين للخلق الإلهي؛ إننا بحاجة إلى توسيع التزامنا في جميع الاتجاهات، وهذا لا يعني مجرد الامتثال لقوة الطبيعة، ولكن الانخراط بنشاط مع تحدياتها. في الوقت ذاته، يجب أن نتوخى الحذر في عدم المبالغة في تقدير البراعة البشرية، حيث إن محاولة تحدي الطبيعة تأتي بنتائج عكسية من نواحٍ كثيرة. لذلك يمثل الحوار الثالث انعكاساً للتماذج بين الواقع الطبيعي والقدرات البشرية، وهو يأتي أيضاً في جوهر التميّز المعماري.

رابعاً وأخيراً، أود التأكيد على أهمية الحوار بين الثقافات في تلبية الفرص المعمارية في عصرنا. لقد ذكرت كيف أن الجائزة نشأت بسبب القلق من التدهور، الأمر الذي أطلق عليه بعض منّا تسمية "سبات"، في التقاليد المعمارية الإسلامية الغنية. لكن احترام الهوية التاريخية لأحد ما، يجب ألا يعني شكلاً من أشكال العزلة الضيقة.

يجب أن يشمل الحوار المعماري الثري الذي نسعى إلى تعزيزه الاحترام المتجدد للتنوع الغني للثقافات الإسلامية نفسها. وكطريقة للتعبير عن هذا الاهتمام، افتتحنا مؤخراً مركز الآغا خان الجديد في لندن، وهو يحتوي سبع حدائق إسلامية، تعكس سبعة تقاليد إسلامية مختلفة.

إضافة إلى ذلك، من الضروري أيضاً تعزيز الحوار مع الثقافات غير الإسلامية بما في ذلك التقاليد الدينية المتنوعة. يمكن للهندسة المعمارية أن تقود الطريق في هذا المسعى، حيث نستمع لبعضنا البعض، ونتعلم من بعضنا البعض مستفيدين من الانقسامات القديمة.

يتجاوز معنى التعددية مجرد تبني مجموعة متنوعة من التأثيرات والأفكار، إنه يعني أيضاً الترحيب بفرص التعلم التي يوفرها التنوع، وإيجاد طرق لتكريم ما هو فريد في تقاليدنا الفردية، وكذلك القيم التي تربطنا بالبشرية جمعاء.

يجب أن نفكر في التنوع بحد ذاته كهبة إلهية، كنعمةٍ وليس كعبءٍ.

ذكرت في وقت سابق أننا نجتمع اليوم في مكان خاص. مثّلت تتارستان منذ قرون مكاناً لالتزام استثنائي بقيم التعددية. تشتهر مدينة قازان والمنطقة الكبرى منذ فترة طويلة بمزيجهما الغني من الأعراق والثقافات، بما في ذلك الطريقة الرائعة التي تم بها الحفاظ على تراثها المعماري واحترامه.

ومن المدهش أن ندرك أن بُلغار القريبة، التي زرتها بالأمس، أصبحت مركزاً دينياً إسلامياً منذ عام 922، أي منذ ألف ومئة عام تقريباً. على مر القرون، شهدت روح التعددية في تتارستان أوقاتاً من التحدي الصعبة وأوقاتاً من التجديد الملهمة. ولكن من خلال كل شيء، استمر الالتزام بالشمولية. تم تشجيع روح التعددية تلك من قبل العديد من الخانات المسلمة التي حكمت المنطقة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وكذلك من قبل بعض الحكام الروس في وقت لاحق، مثل بطرس الأكبر وكاترين العظمى، وقد كان ذلك واضحاً على نحو كبير هنا في السنوات الأخيرة.

خلال زيارتي إلى قازان وبُلغار، رأيت كيف يستطيع الناس الملتزمون احترام القوة لكل من الهوية الثقافية والتعددية الثقافية. وكان من المذهل رؤية كيفية بناء الكنائس والمساجد، على سبيل المثال، والحفاظ عليها بجوار بعضها البعض كرموز قوية للحوار العميق بين الثقافات.

آمل أن نتمكن جميعاً من توجيه بقية العالم نحو النموذج التعددي القوي لأماكن مثل قازان وبُلغار.

العالم بحاجة إلى مثل هذه الأمثلة. يبدو أن التحديات الإنسانية تزداد بوتيرة متسارعة هذه الأيام - تغيّر المناخ، عدم المساواة الإقتصادية والتكنولوجية، انتشار الأوبئة، الاستقطاب السياسي، وتهجير السكان، فضلاً عن المهمة الشاقة المتمثلة في مساعدة البشر لبعضهم البعض للعيش معاً بكرامة.

إنني أؤمن إيماناً عميقاً بإمكانيات العالم المعماري في تقديم المساعدة في إلهام وإثراء الحوار الإبداعي في جميع المجالات الأربعة التي ذكرتها: حوار بين الشركاء المعماريين المبدعين، حوار بين الماضي والمستقبل، حوار بين الواقع الطبيعي والإبداع الإنساني، والحوار بين الثقافات المتنوعة.

عندما حانت زيارتي الأولى هذه إلى تتارستان، عادت أفكاري إلى العروض التقديمية الأخرى للجوائز خلال العقود الأربعة تلك. تم تقديم العروض التقديمية الأولى في لاهور في باكستان، وأتذكر أنني تمنيت في تلك الليلة ألا يتم اعتبار هذه الجوائز بمثابة نهاية للقصة، بل بداية جريئة تحفز على المزيد من النقاش والأفكار والأسئلة والمناقشات، و"ربما أكثر من ذلك، بعض المخاوف" - كما وصفتها آنذاك - حول مستقبلنا المعماري. ويجب أن أُعبّر اليوم عن مدى سعادتي لأن آمالي التي أعربت عنها في لاهور قبل أربعة عقود قد تحققت.

تؤكّد حقيقة أن موضوعنا اليوم يرتكز على كلمة "حوار" على تطلعاتنا المستمرة. إنني أتوجه بالشكر الجزيل لكم جميعاً باعتباركم جزء من هذا الاحتفال الاستثنائي، في الوقت الذي نعبر فيه عن امتناننا لكافة مواهب الماضي الملهمة ولغنى إمكانيات المستقبل.